أمسكُ القلمَ ويديَّ ترتجفان، ونّزفُ قلبي باذخُ بارتجافةِ المتأمل برحمةِ ربه، أتفرغُ من كل ما حولي إلا من ألمِ شعبٍ وبواكيهِ بينَ أجسادِ موتاه.
أمسكُ القلمَ، ويقيني بأن الله هو السميع لا يفارقني، ففي زمنٍ قد تناهت الأذان عن السمعِ، ليس لي سوى الله من سميعٍ مهما كبرت همومي وأوجاع أرضي، فهو الله الواهب من رحماته مدادًا وحبًا.
إلى الله ربي أكتب:
(أكتبُ ليسَ منكرًا، بل متيقنًا بسماعكَ ياربُ صوتَ الأنينِ في قلبي، أكتبُ مقبلًا طامعًا بعطفكَ، مستجيرًا بكَ بكل ما أستطيع، بصوتي الظاهر، وصوتي الباطن وهزيجُ الحبرِ فوقَ سطوري، بضعفي كله، ويقيني كله، بصمتي، وصراخي، وتعبي، وبكائي، وأوجاعِ الأرضِ التي تضعضعتْ قهرًا من جثثِ أبناء أمتي وبلدي.
أكتبُ وجسدي كلهُ فوقَ كرسي الحافلةِ يرخي استسلامهِ، ليمضي بينَ الطرقات يقضي أمري ومهامي، وفي أصقاعٍ بعيدةٍ من وطني لا يجدُ الجريحَ عربةً تُقلهُ إلى طبيبهِ وطبابتهِ تشيفهِ أو تشرفُ على موتهِ فيهنأ ويستريح، أبصرني بعدلكَ يا الله، وامنحني قدرةً أكبرَ من ضعفي الذي أنا بهِ، لأرى ما يريحَ قلبي، أراهُ عينَ اليقينِ لا يقينًا وحسب.
أكتبُ إليكَ ربي يقينًا أنكَ السامع السميعُ المانحُ، وأنا أنظرُ البردَ خارجَ النافذةِ، بردٌ أراهُ ولا أشعرهُ، فالدفء الناتجُ عن تدفئةِ الحافلة يلغي شعورَ البردِ وتوابعه، لتتدافعَ الراحةُ في جسدي كتدافعِ الحياةِ في نبتةٍ كَبُرت لتوها، أستشعر هذا، وفي زاويةٍ شحيحةٍ من رحمةِ البشر يموتُ الطفلُ جوعانًا للدفءِ ناسيًا جسدهُ معنى الرذاذ الحسن من الشعور الطيب والجميل، يموتُ من غُصةِ البردِ وقذارةِ الجو وفيضانِ الذُل ووساخةِ الشعورِ لدى الكثيرينَ من البشر.
ياربُ إني أضعفُ من أن أستطيعَ الموازنةِ والفهم لهذه الحياةِ، أنا أضعفُ من الضعفِ في وجعي هذا، أبصرني وامددني منكَ بغيثٍ يعينني على الوعي والفهم للمعادلة الصعبة لهذا الكون، لأفهم مدى القدرة التي يستطيعها إنسيٌ في القتل والخراب لأجل طمعٍ وغنيمةٍ زائلةٍ.
ياربُ الحقٌ قائمٌ ما دامت عظمتكَ، ويقينًا لا زوالَ لصفاتكَ وجلالكَ وعطائكَ، ياربُ إن سار بنا الركبُ نرى ما نرى، ونتألمُ وحسب، ونبكي لما يجول الأرضَ من خرابٍ وقتلَ، لن يكونَ هذا إلا شراكةً بهذا الخرابِ، باستحضارِ ضعفنا وعجزنا بتلكَ الدموع، وخلقِ حجة للصمتِ عن كل الكائن من هذا الموت.
قوتنا التي نريد أن ندعوكَ بمنحنا إياها، هو أن نزدادَ يقينًا لا بكاءً ولا عجزًا، أن نعي دورةَ الدائرةِ وصفاتَ هذا الكونِ وشروطه، ياربُ امنحنا اليقينَ عينًا لنعي كيفَ علينا أن نخلقَ من صراخِ الثكلى حياةً، ونزينَ بدمِ الأطفالِ جبينَ الصبرِ ودعائنا المرفوع لكَ.
ياربُ إني أمسكُ القلمَ نداءً ودعاءً، أمسكهُ وكل الصور تتقلب في مخيلتي، بينَ الكائن من خرابٍ في بلادي، وبينَ ما كان من مجدٍ وحب، أمسكهُ لأكتبَ بهِ دعائي واعترافي بذنبي الذي اجتمعَ مع ذنوب بني جنسي لتصرخَ فينا الصرخات وتحيلَ زمان الحب إلى زمان يحفهُ الخراب، اللهم امنحنا قدرةً على الوعي والفهم وقدرةً على التغيير انطلاقًا من أنفسنا، رحمةً بالمحرومينَ وحبًا للمستضعفين).